العمل قيمة عالية في حياتنا، لكن حين يتحول إلى انشغال دائم يسرق الراحة والعلاقات، نكون أمام ما يسمى إدمان العمل. قد يبدو الأمر في البداية طموحًا مشروعًا، لكنه مع الوقت يؤدي إلى إنهاك الجسد والعقل وخلل في التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية. التعرف على علامات هذا النمط يساعد على إعادة تنظيم الأولويات وتحقيق إنجاز صحي ومستدام.
هذه ليست دعوة لترك الطموح، بل خريطة لتستعيد التحكّم: نفهم ما هو إدمان العمل، نلتقط علاماته، نعرف لماذا يحدث، ثم نضع خطة علاج عملية تُبقي على إنجازك وتردّ لك حياتك.
ما هو إدمان العمل؟
يعرِّف قاموس علم النفس التابع للجمعية الأمريكية «إدمان العمل» بأنه حاجة قهرية إلى العمل وإلى القيام به بدرجة مفرطة، مع صعوبة الامتناع عنه. هذا يختلف عن «الالتزام الصحي»؛ فالإدمان يتضمن فقدان السيطرة والاستمرار رغم الأذى.

ليس «إدمان العمل» تشخيصًا رسميًا في DSM-5 مثلًا، لكنه يُتناول علميًا تحت مسمّيات مثل العمل القهري/الاعتمادي، وتوجد مقاييس فحص مختصرة مثل مقياس بيرغن لإدمان العمل (BWAS) للتحري الأولي.
الخلاصة: الاجتهاد الصحي يزيد جودة الحياة، بينما إدمان العمل يقلِّصها—المعيار هو الأثر السلبي المتكرر على الصحة والعلاقات والوظائف الأخرى.
لماذا يُعدّ إدمان العمل خطرًا صحيًا؟
- تُظهر تقديرات منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية أن العمل 55 ساعة أو أكثر أسبوعيًا يرتبط بزيادة خطر السكتة الدماغية بنسبة 35% وزيادة خطر الوفاة القلبية الإقفارية بنسبة 17% مقارنة بمن يعملون 35–40 ساعة/أسبوع. هذه أرقام كبيرة لا يُستهان بها.
- تشير مراجعات حديثة إلى ارتباط اختلال التوازن بين العمل والحياة بتدهور مؤشرات الصحة النفسية والبدنية.
- تبيّن مراجعات منهجية في السنوات الأخيرة أن إدمان العمل يرتبط بتراجع التوازن الاجتماعي والوظيفي وزيادة التوتّر، ما ينعكس على جودة العلاقات والأسرة.
كيف تميّز بين الاجتهاد الصحي وإدمان العمل؟
تتغير النبرة الداخلية من «أحب شغلي» إلى «لا أستطيع التوقف»، ويصبح كل فراغ «ذنبًا» يجب ملؤه بالعمل.
علامات سلوكية/نفسية شائعة:
- فقدان السيطرة: تعمل أكثر مما خطّطت، وتفشل محاولات التقليل مرارًا.
- أولوية مطلقة للعمل: تهمِّش النوم والرياضة والأصدقاء والاهتمامات.
- استمرار رغم الأذى: صداع، أرق، توتر أسري/عاطفي، لكنك تواصل العمل.
- انسحاب عند التوقف: تهيّج/قلق/فراغ حين تحاول الراحة.
- هوية مُختزَلة: تعريف الذات يتمحور حول الإنجاز فقط.
- تجنّب المشاعر: استخدام العمل كمسكّن للقلق/الحزن/الوحدة.
قاعدة عملية: إذا أثّر العمل المفرط باستمرار على نومك وعلاقاتك ومزاجك—أنت لا تحتاج «مزيدًا من الانضباط»، بل خطة علاج.
لماذا يحدث إدمان العمل؟
- نفسية/معرفية: كمالية، مخاوف من الفشل/الرفض، حاجة مفرطة للقبول والتقدير، أو استخدام العمل للهروب من توتر عاطفي.
- سلوكية/بيئية: فرق توقيت، ثقافة «أونلاين دائمًا»، هاتف في غرفة النوم، مكافآت مادية ومعنوية تغذّي الدورة (ترقيات/ثناء فوري).
- تنظيمية/مجتمعية: توقعات مبهمة حول ساعات العمل، نقص الموارد، أو قيادات تكافئ «التضحية الشخصية» بدل النتائج الذكية.
التأثيرات على النوم والعلاقات والصحة
سرد: ليلة بعد أخرى تتناقص ساعات النوم، ومع كل نقصٍ يصبح التركيز أصعب، فتحتاج وقتًا أطول لإنجاز نفس المهمة—فتعمل أكثر… وتدور الحلقة.
تداعيات شائعة:
- النوم: تأخر الإغفاء، أرق متكرر، نعاس نهاري، تدهور الأداء المعرفي.
- الجسد: صداع توتري، آلام الرقبة/الظهر، ارتفاع ضغط الدم ومؤشرات أيضية أسوأ مع طول المدة. (ترتبط ساعات العمل الطويلة بزيادة مخاطر القلب والسكتة كما أسلفنا).
- النفس/العلاقات: تهيّج، قلق/مزاج منخفض، تراجع الحميمية الأسرية، شعور شريك الحياة بـ«الإهمال العاطفي».
- العمل نفسه: تناقص الإبداع، اتخاذ قرارات أضعف، وزيادة أخطاء—مفارقة «أعمل أكثر… وأنتج أقلّ جودة».
كيف يُشخَّص إدمان العمل ويُقاس؟
- مقابلة إكلينيكية: أسئلة حول السيطرة، الأثر، والاستمرار رغم الأذى.
- مقاييس فحص: مثل BWAS (سبعة بنود) كأداة سريعة لالتقاط النمط الإشكالي ومتابعة التحسن على مدار الأسابيع.
- تقييم عوامل مصاحبة: قلق/اكتئاب/أرق، وحدود رقمية، وثقافة فريق العمل.
برنامج 14 يومًا لاستعادة التوازن
الهدف ليس «إجازة طويلة» بل خطوات صغيرة ثابتة تعيد القيادة إليك.
الأسبوع 1 — فصل ذكي وتقليل الضوضاء الرقمية
- يوم 1–2: قياس الواقع (وقت العمل الفعلي/أوقات البريد/السهر).
- يوم 3: إعلان «نافذتي بريد» + تفعيل «عدم الإزعاج» مساءً.
- يوم 4: إغلاق الحاسوب قبل النوم بساعة، وهاتف خارج غرفة النوم.
- يوم 5: دقيقة تنفّس 4–6 بعد كل اجتماع + مشي 10 دقائق.
- يوم 6: أمسية بلا شاشات (قراءة/جلسة عائلية/طبخ بسيط).
- يوم 7: مراجعة: ما الذي خفّض التوتر فعلًا؟ ثبّته للأسبوع التالي.
الأسبوع 2 — تثبيت الحدود وإعادة الاستثمار في حياتك
- يوم 8: وضع «حد العمل اليومي» (مثلاً 8.5 ساعات) مع إنذار ختامي.
- يوم 9: تحديد 3 أولويات صباحًا… وإغلاق اليوم عند تحقيقها.
- يوم 10: موعد رياضة قصير ثابت (20–30 دقيقة).
- يوم 11: لقاء وجاهي (عائلة/صديق) دون حديث عن العمل.
- يوم 12: مهمة «للروح» (هواية/تعلم قصير).
- يوم 13: تفويض مهمة واحدة ولو جزئيًا.
- يوم 14: تقييم شامل، ثم خطة شهرية على ما نجح.
التوازن لا يساوي الكسل؛ إنه إدارة طاقة ذكية تُحسّن الأداء والصحة معًا، وهو ما تدعمه أدلة «التوازن بين العمل والحياة» وعلاقته
خطة علاج إدمان العمل: نموذج عملي يعيدك للتحكّم

1) إعادة ضبط «الساعة» (النوم والحضور الذهني)
- قاعدة غرفة النوم بلا عمل/هواتف: استبدل الهاتف بمنبه تقليدي.
- موعد نوم واستيقاظ ثابتان حتى في العطلات.
- طقس إطفاء قبل النوم بـ60 دقيقة: إضاءة خافتة + قراءة خفيفة/استرخاء عضلي/تنفّس 4–6.
- ضوء صباحي طبيعي 10–15 دقيقة لتهدئة الساعة البيولوجية.
2) علاج معرفي سلوكي (CBT) مخصّص لإدمان العمل
- تتبّع الفكرة التلقائية: «لو توقفت سأتأخر/سأفشل».
- تفكيك المعتقد: هل توجد أدلة؟ ما أسوأ/أفضل/أرجح سيناريو؟
- بدائل سلوكية قصيرة: 10 دقائق مشي/تمارين مقاومة خفيفة بدل «تمرير البريد» ليلًا.
- قوائم «يكفي»: تعريف «المنجز الكافي اليوم» بدل «المثالي اللانهائي».
3) حدود مهنية قابلة للتنفيذ (وليست شعارات)
- وقت عمل مُعلن: نافذتان للبريد (مثل 10 صباحًا و4 عصرًا).
- اتفاق فريق: متى نتوقع ردًا؟ ما الحرج في رفض مواعيد غير واقعية؟
- قاعدة 3–2–1 يوميًا: 3 مهام أساسية، 2 ثانوية، 1 لذاتك (رياضة/قراءة/عائلة).
4) تنظيم بيئة العمل
- إشعارات ذكية: كتم «الكل» عدا الضروري، وأوقف التنبيهات على سطح المكتب أثناء «ساعتين تركيز».
- مكتب نظيف وخارج غرفة النوم.
- تقنية بومودورو: 25 دقيقة تركيز + 5 راحة بلا هاتف، وراحة أطول بعد 4 دورات.
5) شراكة أسرة/قيادة داعمة
- حوار بلا لوم: «أريد أن أكون حاضرًا أكثر، فلنعدّل الجدول».
- ميثاق أسبوعي: أمسية بلا شاشات/موعد ثابت للعائلة/رياضة مشتركة.
- في العمل: اطلب أولويات واضحة ومقاييس مخرجات بدل «ساعات أونلاين».
6) متى نضيف دعمًا طبيًا؟
- عند أرق شديد، قلق/اكتئاب مُعطِّل، أو فشل متكرر رغم الخطة. هنا يفيد التقييم النفسي/الطبي لتحديد الحاجة إلى علاج نفسي أعمق أو دواء، مع تذكّرك أن جوهر العلاج سلوكي بيئي.
كيف تتحدث مع مديرك/فريقك دون خسارة الصورة المهنية؟
- ركّز على مخرجات لا «حضورٍ دائم»، واقترح آليات واضحة (لوحة مهام، نقاط تسليم).
- اطلب أولويات مرتّبة عندما تتزاحم الطلبات.
- شارك بيانات بسيطة: كيف حسّنت الحدود إنتاجيتك (مثلاً إنجاز 3 مهام أساسية يوميًا بدل تشتت 20 مهمة).
- اقترح ساعات صمت للفريق (لا اجتماعات/لا رسائل فورية) مرتين أسبوعيًا.
«اشتغل بذكاء… وارجع لحياتك» — برنامج مخصّص مع ونيس
سرد تسويقي محفّز: لو كان شعارك الدائم «بس أخلّص…» ثم لا ينتهي شيء، فأنت لا تحتاج مواعظًا؛ تحتاج خطة واقعية بيد مختص. في ونيس للطب النفسي نساعدك على:
- تقييم دقيق لمدى إدمان العمل لديك (سيطرة/أثر/استمرار) وتحديد محفّزاته.
- بروتوكول CBT عملي لإعادة هيكلة المعتقدات الكمالية وبناء حدود قابلة للتنفيذ.
- هندسة رقمية ذكية (نافذتا بريد، ساعات صمت، سطح مكتب نظيف، نوم مُحصّن).
- متابعة أونلاين مرنة وسرّية، مع مقاييس تقدّم بسيطة تُريك أثر كل خطوة.
ابدأ اليوم بخطوة صغيرة—غالبًا تصنع الفرق الأكبر.
الأسئلة الشائعة عن إدمان العمل

1) ما هي علامات إدمان العمل؟
فقدان السيطرة على ساعات العمل، أولوية مطلقة للعمل على حساب النوم والرياضة والعلاقات، استمرار رغم الأذى، قلق/تهيج عند التوقف، وشعور دائم بالذنب عند الراحة. تستخدم مقاييس مثل BWAS للتحري الأولي.
2) كيف يؤثر إدمان العمل على الصحة؟
يرتبط العمل ≥55 ساعة/أسبوع بزيادة خطر السكتة والوفاة القلبية الإقفارية، كما يرتبط اختلال التوازن بين العمل والحياة بتدهور الصحة النفسية والبدنية.
3) ما الفرق بين الاجتهاد الصحي وإدمان العمل؟
الاجتهاد الصحي يحترم الحدود ويترك مساحة للنوم والعلاقات، بينما إدمان العمل يتصف بفقدان السيطرة، وأولوية العمل على كل شيء، والاستمرار رغم الأذى.
4) كيف يتم علاج إدمان العمل؟
بخطة متعددة: CBT لإعادة هيكلة المعتقدات، حدود مهنية (نافذتا بريد/ساعات صمت)، هندسة رقمية ونوم منضبط، ودعم أسري/مهني. يُعالج القلق/الأرق المصاحب عند الحاجة.
5) ما هي مخاطر إهمال الصحة بسبب إدمان العمل؟
أرق مزمن، ارتفاع ضغط، آلام عضلية هيكلية، تدهور المزاج والعلاقات، وعلى المدى البعيد مخاطر قلب وسكتة مع استمرار ساعات العمل الطويلة.
أنت لست آلة. العمل مهمّ، لكنه جزء من حياة كاملة. عندما تسمّي المشكلة—إدمان العمل—وتعيد ضبط ساعتك ونظامك وحدودك، تكتشف أن الإنجاز لا يتناقض مع الحياة؛ بل ينمو معها. ومع خطة علاجية ذكية ودعم مهني رحيم، يمكنك أن تعمل بذكاء وهدوء… وتعود إليك وإلى مَن تحبّ.
المراجع الطبية
- WHO & ILO — Long working hours increasing deaths from heart disease and stroke (News release, 2021). يقدّم تقديرات عالمية تربط ≥55 ساعة/أسبوع بزيادة المخاطر القلبية والدماغية. who.int
- Scoping Review (Environ Res, 2021) — Global, regional, and national burdens of ischemic heart disease and stroke attributable to long working hours. ملخّص علمي لنتائج WHO/ILO. PubMed
- APA Dictionary — Workaholism. تعريف نفسي مختصر يميّز الحاجة القهرية للعمل. dictionary.apa.org
- Bergen Work Addiction Scale (BWAS) — Psychometric properties (2022, NIH/PMC). خلفية مقياس فحص مختصر لإدمان العمل. PMC
- Systematic Review (2024, NIH/PMC) — Work addiction and social functioning. ارتباط إدمان العمل بانخفاض التوازن الاجتماعي والوظيفي. PMC
- Work–Life Balance and Mental & Physical Health (2022, NIH/PMC). علاقة اختلال التوازن بتدهور مؤشرات الصحة. PMC
- Review (2024, NIH/PMC) — Working hours and cardiovascular disease. ملخص حديث عن الارتباط بين الساعات الطويلة وأمراض القلب. PMC